"وعود الشهداء ، والألَمّ الَّذي لا يرحل"


في تِلكَ اللَّيلة، أخذني بينَ يديه وقال

"سأعودُ إليكِ بخاتم العقيق"

لَكِن الوعود الَّتي تُقطع في زمنٍ قاتل لا تُسجل في الأوراق بل تظلُّ في القلب تحترق مع كُلِّ ذكرى 


مُحَمد، وعَدتني بالعودة لَكِنَّك غادرت ولَمْ تَعُد تركتني في ساحة الذِّكريات والألَمْ


لِنتكلم قليلًا عن زوجي وحبيبي ورفيقي 

الشهيد " مُحَمد "

أنا وهوَْ عَشقنا بعضنا مُنذُ الطفولة ، فـ هوَِّ أبنَ خالتي ورفيقَ طفولتي وأبي وأخي ، كانَ الجميع بالنسبةً لي وبعدَ المُعارضات وجميع الأشياء الَْتي حصلت معنا  ها قَدْ تزوجنا ، نعم اليوم يمرُّ على زواجنا ثلاثة شهور

أنا مَلكتهُ وهو أميري ، أنا حبيبتهُ وهو سيد الرِجال ، أنا رفيقتهُ وهو رفيقُ الدَّرب ، أنا أمانتهُ وقَدْ صانَ الأمانة

ولَكِن صادفت تِلكَ الأجواء المشحونة بالتوتر و الخوف و القلق " الأرهاب و الحرب " 

كانَ مُحَمد يُريد التطوع مع الحشد الشعبي وتلبية الفتوى

لَكِنَّني كُنتُ أرفض ، أرفض ذهابهُ لأنَّني لا اتحمل العيش بدونهُ ، لا أستطيع الأبتعاد عنهُ

توسلتُ إليه في تِلكَ اللَّيلة ، بكيتُ أمامهُ ، قبلتُ يداه 

لَكِنَّهُ لَمْ يَسمعني ، لَمْ يُطاوعني ، لَمْ يمسح دموعي ، بل قالَ لي : حُلمي أنْ انال الشهادة ولَكِن لا تقلقي سأعودُ إليكِ وأجلبُ لكِ الخاتم الَّذي تُحبينهُ " خاتم العقيق " 

رفعتُ رأسي عيناي مُمتلئة بالدُّموع وقلبي يؤلمُني

: عَزيزَ روحي ، يا مُحَمدي ، ورفيقي ، أنْ ذهبتُ عني فَمِن لي دونك ولِمن سأعيشُ حياتي بعدك

لَكِن أنْ أردتُ تحقيق هذا الحُلم فأنا معك وسأظلٌ في كُل فرض صلاة أدعي اللّٰه أنْ تعودَ إليّ سالمًا غانمًا ، لا أستطيع الوقوف في وجهك لأنَّنا عندما كُنا صِغار أخبرتني ذاتَ ليلة بأنَّكَ عندما تصبح رَجُل كبير سَتكون أعظم الرِجال وأوفى الرِجال لِعائلتهُ وزوجتهُ ووطنهُ

وها أنتَ الآن قَدْ نفذتُ جميع الوعود ، بأمان اللّٰه وآل مُحَمد (ص)


عندما أكملتُ كلامي 

شعرتُ بدفئ يداهُ تحتضنُ يداي 

وصوتهُ الحنون و المُطمئن وهوَّ يقول لي 

: هذهِ هيَّ صغيرتي الَّتي ربيتها على حُب اللّٰه عز و جل وآل مُحَمد ، هذهِ هيَّ زوجتي الَّتي طلبتها من مولاتي فاطمة الزهراء (ع) 

زوجة مؤمنة ، وتخاف اللّٰه

بارك اللّٰه بكِ يا قُرة عيني ويا ملكة قلبي ومَملكتي 


وبعدَ أنْ التحق مُحَمد في اليوم التالي بدأت ضحكاتي تتلاشى و الحُزن يحتلُ قلبي 

كُنتَ افرش سجادتي وأذكرهُ بينَ دُعائي وأطلب من اللّٰه عز و جل أنْ يعودَ لي سالمًا غانمًا 

وفي تِلكَ اللَّيلة وبعدَ أنْ أكملتُ صلاتي وصدقت بالله العلي العظيم طويتها وتركتها على الكُرسي في زاوية الغُرفة

كانت سبحة مولاتي فاطمة الزهراء (ع) في يدي أرددُ بها الأغاثة " اغيثيني يا أُماه " 

و أثناء خروجي من الغرفة جاءَ أتصال على هاتفي ذهبتُ مُسرعة لأنَّني ظننتهُ عَزيزَ روحي مُحَمد

لَكِن عندما رأيتُ المُتصل خفَ توازني وخفق قلبي بقوة وكأنَّني عرفتُ سبب الأتصال ، فَقَدْ كانَ المُتصل رقم مجهول 

رفعتُ الهاتف وجائني صوتًا مُتعب ، وكأنَّهُ كانَ يُهرول في مكانًا مُرعب : السَّلام عليكم أُختاه

فقلتَ لهُ بصوتًا مائل للهدوء : عليكم السَّلام أخي تفضل ؟

: أُختاه لا أعلم ماذا اقولَ لكِ ، لَكِن البقية في حياتكم ، قَدْ حصل معنا أنفجار على طريق العودة و العسكري مُحَمد كانَ في المُستشفى حالتهُ حرجة 

واليوم قَدْ .. قَدْ .. تركنا وذهب 

كانَ يتكلم وهو يبكي و الغصة في صوتهُ وكأنَّهُ يقولَ لي صدقي هذا الخبر

أكمل كلامهُ وهو يقول برجاء : رجاءًا يا أُختاه قبل قليل أخبرتُ والدة مُحَمد فَكوني معها وساعديها على هذا المُصاب 

غلق الهاتف ، لكنَّني لَمْ أُصدق ما سمعتهُ

جلستُ على الأرض وأنا أُردد ، لا ، لا أنَّهُم يُكذبون الخبر غير صحيح 

وبعدَ أنْ تذكرت أنَّهُ أخبرني عن عمتي والدة مُحَمد


اتكئتُ على الحائط ووقفت وأنا أمشي خطوةً خطوة ، لكنَّني فقط جسد بلا روح

خرجتُ إلى الحديقة وأنا مُتأملة لِعليّ آراهُ ينتظرني في مكاننا المُعتاد ، بينَ الورود الحمراء

وقَدْ خابَ ظني عندما رأيتُ والدة مُحَمد في يدها اليُسرى تتوسط صورتهُ و في اليد الأُخرى تمسكُ الزي العسكري مُلطخ بالدماء

أقتربت نحوها بخطوات ثقيلة وعقلًا يُكاد يرفض قبول هذا الخبر وعينان ترفضُ أنْ تُصدق أنَّ هذهِ الدماء ، دماء مُحَمد !!!

وصلتُ بجانبها وأنا أردد " كُن معي يارب "

وعندما جلستُ ومسكت الزي العسكري ، هُنا قَدْ توقف قلبي وأظلمت الدُّنيا في عينيّ  لأنَّها رائحة مُحَمد !!!

رائحة حبيبي و زوجي و رفيقي ، لَكِن لا ، لا أستطيع تصديق هذا الخبر ، فَقَدْ وعدني أنَّهُ سَيعود قريبًا وسَيهديني خاتم من حجري المُفضل " العقيق "



فَكيفَ الآن تركني !!

كيفَ خلف وعدهُ هَكذا !!

كيفَ ترك والدتهُ وهو وحيدها !!

كيفَ تركتنا ولِمن تركتنا يا رفيقَ روحي

تركتنا لِهم وغم الدُّنيا ولوعتها

تركتنا للذِّكريات المؤلمة و المُحطمة

ولَكِن لا بأس ، أنتهت قُصتنا فَقَدْ أنتصرتُ أخيرًا وفاز الوطن بكَ وأنا خسرتك للأبد

أنتهت حياتنا ، ولَكٌن الذِّكريات ظلّت دائمة في كُلِّ لحظة ومكان و زمان


في تِلكَ اللَّيالي المُظلمة بينَ زوايا الغرفة حَيثُ الأنارة الخافتة وصَهيل الجو البارد ، كُنتُ جالسة على سجادة الصلاة وعيناي مُتصلبة على مكانهُ الَّذي أعتاد أنْ يجلس به ليُشاهدُني وأنا أُصلي ويبتسم لي تِلكَ الأبتسامة المُطمئنة

لَكِن اليوم لَمْ يجلسُ أمامي ، فقط صورتهُ تتوسط المكان ونظراتهُ الجامدة و أبتسامتهُ المُطمئنة

لأنَّهُ تركني ، تركَ قلبي مُعلق بينَ الذِّكريات وعيناي تُراقب باب المنزل لعلّهُ يأتي لعلَ حينَ أُناديه يقول لي " نعم يا ملكة قلبي " 

لَمْ يعلم ماذا حدث بِتلكَ الَّتي لقبها ملكة قلبهُ 

فقط احتل العدو مملكتهُ بالكامل وقتل الأمير و الملكة 

 فَقَدْ سلب روحي وقلبي وأماني ، والآن بدأ جسدي ينحف ويتلاشى شيئًا فشيئًا


و اليوم وبعدَ مرور ثلاث سنوات على فُراقنا ذهبتُ إلى صورتهُ لأخبرهُ كيفَ وصلتَ إلى حُلمي و الَّتي كانت عادتي الدائمة ، عندما أستيقظ أفتحُ باب المنزل لأرى تِلكَ الصورة الَّتي تَشعُرُني بلأمان

ولَكِن عندما فتحتُ باب المنزل ورفعتُ رأسي  تلاشت ابتسامتي ولوهلةً قَدْ توقف قلبي لأنَّني لَمْ أرى الصورة في مكانها 

وعندما التفتُ رأيت بعضُ الأشخاص المُتطفلين و الَّذينَ يبحثون عن المال و الشهرة ، يرفعون صور الشهداء من الأعمدة !!!! 

أقتربت باتجاههم وقلت لهم بصوتًا مبحوح وهادئ : أخي بالله، ماذا تفعلون هُنا ولِماذا تنزلون صور شُهدائنا. وفخرنا 

لَكِنَّه فاجئني عندما ضحك بصوتًا مُشمئز وقال لي كلامًا يُغطى الوجهُ عليه وعيبةً على الرَجُل أنْ يتكلم هَكذا مع امرأة لا حول ولا قوة لها في هذا الدُّنيا

: لِماذا يا خاتون هل زوجكِ بينهم ؟ 

أم تُريدين بعض المال ، وأنْ كُنتِ من صنف تِلكَ النساء الَّتي عندما يموت زوجها تذهب لِتجدُ رجل آخر، فأنا هُنا

عندما أكمل كلامهُ ، أكمل ضحكتهُ المُشمئزة

ارتجفت يداي وضاقَ صدري وقَدْ احتلني الخوف وأنا امرأةً بينهم

وعندما التفتُ لأعودَ لِمنزلي قلتُ بيني وبينَ نفسي  ، لا والله لن أذهب دونَ أنْ أتكلم وأعلمهُ أنَّ المرأة تتقدس وتُحترم في هذا الوطن

أقتربتُ نحوهُ وقلتَ لهُ بصوتًا تملئهُ الثقة و القووة

: أنْ كُنتَ تُريد هَكذا نساء فأذهب وأخبر والدتك لرُبَّما تجدُ لكَ هَكذا امرأة وضيعة تشبهك

وسيأتي يومًا عليك ، تُهان فيه زوجتك ووالدتك وشقيقتك لأنَّكَ لَمْ تُرضي اللّٰه وآل مُحَمد

ولأنَّ اللّٰه سَيُبتليك بعائلتك عاجلًا غير آجلًا

أكملت كلامي وسحبتُ صورة مُحَمد من بينَ يدهُ القذرة وعدتُ إلى منزلي 

لكنَّني في هذهِ المرة ، لَمْ أعُد مُطمئنة بل عُدتُ مكسورة وكأنَّ مُحَمد قَدْ تركني للتو 

مسحتُ دموعي قبلتُ صورتهُ وقلتَ لهُ

: أهَكذا كُنتَ تُريد ؟ حصلتُ على الشهادة وتركتني بينَ الوحوش !!

ألَمْ تعلم أنَّكَ دافعت عن وطن قَدْ ازال صورتك اليوم 

ألَمْ تعلم أنَّكَ دافعت عن وطن مصلحتهم الأولى و الأخيرة المال و السلطة !!


لَكِن حسنًا أنتَ أردتُ هذا الشيء وأنا فخورةً بك اليوم وفي كُلَّ يوم


رحمك اللّٰه يا رفيقي وعـَزيزي وحبيبي وزوجي


الكاتِبة : زهراء حازم الإبراهيمي

المُحافظة : كربلاء المقدسة








تعليقات

الأرشيف