حوار مع كاتب
1. كيف بدأت رحلة في الكتابة؟ هل كانت هناك لحظة أو حدث معين ألهمك لتبدئ فيها؟
ج/ لم تكن الكتابةُ قرارًا، بل كُنت اشعر بأنها قدرًا يسري في دمي منذ أن وعيتُ، كأنها جُبلت مع أنفاسي الأولى. لكن إن سُئلت عن اللحظةِ التي أطلقت شرارة الحرفِ في داخلي، فهي لم تكن لحظةً واحدة، بل تراكمُ شعورٍ، خليطٌ من دهشةٍ ووجع، من أسئلةٍ لم أجد لها أجوبة، ومن مشاهدَ عبرتُها ولم تتركني أبرحُها بسهولة. بدأت حينها اكتب لمجلة جامعة خاركوف بأسم مستعار ، و بعد ان فاز البحث الذي قدمته ( الامام الصادق مالم يعرفهُ السوفيت ) حينها انتقلت للكتابة بأسمي الصريح و كنت اكتب لمجلة سان بطرس بورغ عام 2011
2. ما التحديات التي واجهتك أثناء الكتابة، وكيف تغلبت عليها؟
ج/ اول التحديات كان الخوف من الانكشاف.
أن تكتب يعني أن تعري روحك، أن تترك جزءًا منك عاريًا أمام القارئ، وهذه مخاطرة لا يجيدها الجميع. لكنني تعلمتُ أن الكتابة الحقيقية لا تعرف الأقنعة، وأن الصدق في التعبير أقوى من أي قيدٍ قد يفرضه الخوف.
أما التحدي الأكبر، فكان التكرار والبحث عن التفرّد.
انتم تعرفون أن عالمنا يعجّ بالكلمات، فكيف يمكن لحروفي أن تصنع أثرًا، أن تُحدِث فرقًا، أن
أن لا تكون مجرد صدى؟ فوجدت الجواب في أن أكتب بصوتي، لا بأصوات الآخرين، أن أجعل كتابتي مرآةً لنفسي، لا ظلًا لغيري، أن أبحث عن العمق، لا عن المجاملة، وعن الإحساس الصادق، لا عن التصنّع
3. صف لنا روتينك اليومي في الكتابة... هل تلتزم بجدول محدد، أم تكتب عندما تشعر بالإلهام فقط؟
ج/لكوني مهندساً للنفط فحين يشرقُ الصباح، أرتدي خوذتي، وأغوص في عالمٍ من الحديد والأنابيب، حيثُ ينصهرُ كل شيءٍ في لغة الأرقام والتقنيات. هناك، في أعماق الأرض، يكون الذهب الأسود، نراقب تدفقه، ندرس مساراته، وأُدركُ جيدًا أن النفط هو نبض العالم، لكنه ليس نبض روحي.
فما أن أعود إلى بيتي، وأخلع بدلة العمل، حتى أرتدي معطف الحروف، وأتّجهُ إلى ملاذي: الكتابة. لا أتبعُ جدولًا صارمًا، لأن الكتابة ليست أمرًا ميكانيكيًا يُبرمج على وقتٍ معين، بل هي برقٌ يخترق الروح دون سابق إنذار. أحيانًا تأتيني الفكرة وأنا متعب، فأجد نفسي أستجيب لها كما يستجيب العطِشُ للغيث، وأحيانًا أخرى أترك القلم لأيام، لكنني لا أترك القراءة أبدًا، لأنها زادي اليومي، ونوافذي المفتوحة على عوالم لا تنتهي
4. كيف تتعامل مع "صفحة بيضاء" أو لحظات الجمود الإبداعي؟
ج/ الصفحة البيضاء هي تحدٍّ خفي، اختبارٌ بيني وبين ذاتي، ساحةُ معركةٍ أقفُ فيها أمام صمتٍ جبار، أُحارب فراغًا يتحداني، لا أخشاها، بل أُحاورها. أحيانًا أملؤها بالفوضى، أكتب أيّ شيء، أُشوّش بياضها بكلماتٍ لا معنى لها، أترك لها أن تستفزني، أن تُجبرني على المواجهة. أعلم أنها لا تخلو من الحروف، بل تخفيها عني ، فأدور حولها، أبحثُ عن مدخل، عن كلمةٍ تشقّ السكون، عن جملةٍ تُعيدُ تدفّق النهر الجاف . إن استعصت عليّ، تركتُها لبرهةٍ وذهبتُ إلى القراءة، لأنني أؤمن أن الكلمات مثل النار، تُشعلها شرارةٌ تأتي من حرفٍ قرأته، من فكرةٍ عابرة، من مشهدٍ بسيطٍ في الحياة لم أكن أنتبه له.
أحيانًا، أتوقف عن ملاحقتها، أدعها تأتي وحدها، تمامًا كما تأتي الريح للبحر دون أن يطلبها، وكما يُزهرُ الربيع دون أن يطرقه أحد. أدرك أن الجمود الإبداعي ليس لعنة، بل استراحةٌ تمنحني الكتابةُ ذاتها، كي أعود إليها أكثر عطشًا، وأكثر جنونًا بالحرف
5. هل تعتمد على البحث المكثف قبل الكتابة (خاصة إذا كانت الرواية تاريخية أو تحتاج لمعرفة متخصصة)، أم تفضل الخيال الحر؟
ج/ الكتابة هي بناءٌ معماريٌّ دقيق، أساسه المعرفة وسقفهُ الخيال. حين أكتب، لا أسمح للكلمة أن تكون عاريةً بلا جذور، ولا للخيال أن يكون جامحًا بلا دليل، بل أتركهما يتعانقان مثل سماءٍ تمطرُ على أرضٍ خصبة، فتنبتُ الحكاية بينهما، قويةً ومُقنعة.
لكن، هل يُمكن أن يكون البحثُ وحدهُ كافيًا؟ لا، فالكلمات التي لا يسكبُ الكاتبُ فيها من روحهِ، تظلُّ مجرد سطورٍ باردة، بلا نبض. لهذا، حين أشعرُ أنني غرستُ جذوري في أرض المعرفة، أُطلقُ العنانَ لخيالي، أتركهُ يُحلقُ كطائرٍ جامح، إذن، أنا لا أُراهنُ على البحثِ وحده، ولا أُسلمُ قيادتي للخيالِ المطلق، بل أجعلُهما يلتقيان في منتصفِ الطريق، فتُولدُ الحكايةُ .
6. شخصياتك غالبًا [صفة مميزة، مثل: معقدة/ واقعية/ غامضة]... كيف تبني شخصياتك؟ هل تستمدها من أشخاص حقيقيين؟
ج/ شخصياتي أرواحٌ تنبضُ بداخلي، تنمو معي، تُجادلني أحيانًا، وتتمرّد عليَّ كثيرًا. لا أخلقها، بل أكتشفها كما يُكتشف كنزٌ مدفون . هي ليست مسطّحةً ولا مثالية، بل معقدةٌ مثل الحياة، غامضةٌ حين يجب أن تكون. واقعيةٌ حين يفرض السرد ذلك، لكنها دومًا تحملُ بذرة الصدق، لأن القارئ يشعر إن كانت الشخصية “حقيقية” أم مجرد ظلٍّ بلا روح .
هل أستمدها من أشخاص حقيقيين؟
نعم ولا. أحيانًا، تلمعُ أمامي ملامح إنسانٍ عابر، أو لفتةٌ خاصة لشخصٍ في حياتي، فأسرق منها تفصيلةً صغيرة، لكنني لا أؤمن بنقل شخصيةٍ كما هي إلى النص، لأن الكتابة ليست تصويرًا فوتوغرافيًا للواقع، بل إعادة خلقٍ له
الشخصيات تولد من تفاصيل دقيقة:
من نظرةٍ غير مكتملةٍ في زحام، من ارتجافةِ صوتٍ تحت وطأة الحنين، من قسوةِ عينٍ تُخفي ندوبَ ماضٍ لم يُروَ، من رجلٍ يجلسُ في زاوية مقهى ويبدو أنه ينتظر شيئًا لن يأتي، من امرأةٍ تبتسم لكنها تُخفي بين تجاعيد وجهها ألف حكاية لم تُقل.
7. هل هناك شخصية في كتاباتك تشعر بأنها تعكس جزءًا منكَ أو من تجاربك الشخصية؟
ج/ كلّ شخصية أكتبها تحملُ في طيّاتها شيئًا مني، حتى لو لم أقصد ذلك. أحيانًا، أجدني أُسرِّبُ شيئًا من روحي إلى شخصياتي دون وعي، كمن يترك بصمته على زجاجٍ مُغبر، أو كمن يهمس بسرّه لريحٍ لا يدري أين تحملُه
لكن، هل هناك شخصيةٌ بعينها تعكسني؟
ربما ليست واحدة، بل شظايا مني موزّعة على أكثر من روح.
أحيانًا، أكتبُ شخصيةً ما، ثم أدركُ لاحقًا أنها تحملُ ندبةً تشبه ندبتي، أو أنها تنطقُ بجملةٍ كنتُ أُرددها يومًا دون أن أنتبه. ربما هذا هو سحر الكتابة، أننا نظن أننا نخلقُ شخصيات مستقلة، لكننا في الحقيقة نمنحها جزءًا من أنفسنا، فتُصبح امتدادًا لنا بطريقةٍ أو بأخرى.
أكتبهم، لكنهم يكتبونني أيضًا.
أمنحهم حياتهم، لكنهم يعيدون تشكيل ملامحي من جديد.
هم ليسوا أنا بالكامل، لكن في كلّ واحدٍ منهم ظلٌّ لي، يبقى حتى بعد أن تطوى صفحات الحكاية
8. كيف تقرر مصير الشخصيات؟ هل تخطط مسبقًا لكل تفصيل، أم تتركها تتطور مع تقدم القصة؟
ج/أحيانًا، أبدأ ومعي خريطةٌ واضحة، أرسمُ فيها كلَّ تفصيلة، وأحدّد النهايات، وأعرفُ متى سيقف هذا البطلُ عند مفترق طرق، ومتى ستسقطُ تلك الشخصية في ظلمةٍ لا خروج منها. لكن ما يحدث غالبًا هو أن الشخصيات تتمرد، تُفاجئني، تقودني إلى منعطفٍ لم أخطط له، ترفض المصائر التي رسمتُها لها، وكأنها تحيا داخل النصِّ بكيانٍ مستقل، تفرضُ حقيقتها كما لو أنها تملك وعيًا خاصًا بها.
هناك شخصياتٌ قرّرتُ أن أُبقيها حيّة، لكنها أصرتْ على الموت، وكأنها تخبرني أن لا مكان لها بعد الآن في القصة. وهناك شخصياتٌ خطّطتُ أن تنتهي في منتصف الرواية، لكنها تَمَسَّكتْ بالبقاء، ووجدتُني أُعيد حساباتي لأن غيابها سيترك فراغًا لا يُملأ
إذن، هل أُخطط لكلِّ شيء؟ نعم، لكنني أسمحُ للفوضى أن تتسلّل، أتركُ لنبضِ القصة أن يُعيد ترتيب الأحداث، وللشخصيات أن تكتب مصائرها كما تشاء، لأن أعظم القصص ليست تلك التي يُسيطرُ عليها الكاتبُ بالكامل، بل تلك التي وكأنها تكتبُ نفسها
9. هل تكتب بهدف إيصال رسالة محددة للقارئ، أم تفضل ترك التفسير مفتوحًا؟
ج/ نعم، أحيانًا يكونُ في داخلي رسالة، لكنني لا أضعُها في قالبٍ مباشر، بل أُخفيها بين السطور، أتركُها تهمسُ بدلاً من أن تصرخ، وأمنحُ القارئ مفتاحَها دون أن أُجبره على فتح الباب. فليس على الكاتب أن يُلقّن قارئه كيف يشعر، بل أن يتركه يكتشف مشاعره بنفسه، أن يجعله يرى الفكرة، لا أن يضعها أمامه مثل حجرٍ صلبٍ لا يمكن أن يُعاد تشكيله.
أؤمن أن كلَّ نصٍّ حقيقيٍّ يترك أثرًا، لكنه ليس أثرًا واحدًا، بل ألفَ طريقٍ إلى التأويل، وألفَ وجهٍ للحقيقة. قد أكتبُ شيئًا وأجدُ في عيون قرّائي قراءاتٍ لم أكن أراها، وكأنَّ النص لم يعد لي وحدي، بل صار مشتركًا بيني وبين كلّ من يقرؤه، وكأنّ كلماتي لم تُخلق لتبقى أسيرة قَصدي، بل لتُصبح حُرّةً في عقول من يتلقّونها.
إذن، هل أكتبُ لهدفٍ محدد؟
نعم، أكتبُ لأحرّك شيئًا في القارئ، لكنني لا أُملي عليه كيف يتحرّك.
أترك الرسائل مثل نجومٍ مبعثرةٍ في النص، وعلى كلّ قارئ أن يختار أيَّ نجمٍ يهتدي به
10.كيف توازن بين التعبير عن قضية اجتماعية أو سياسية وبين الحفاظ على البعد الفني للأدب؟
ج/ أرفضُ أن يكون الأدب تقريرًا، أو منشورًا خطابيًا خاليًا من الروح، فالقضيةُ إن لم تكن جزءًا حيًا من القصة، إن لم تندمج مع تفاصيل السرد، تصبح عبئًا على النصّ، تفقد قوتها، وتتلاشى في زحمة الوعظ والتكرار. لهذا، حين أكتب عن قضية، لا أجعلها في الواجهةِ مباشرة، بل أجعلها تتشكلُ من خلال الشخصيات، من صراعاتهم، من ماضيهم الذي لم يُقال، ومن حاضرهم الذي يتشكل بين أيديهم.
التوازنُ يأتي حين لا يشعر القارئ أنني أُملي عليه ما يجب أن يفكر به، بل حين أجعله يرى الواقع كما هو، دون تزييف، دون مبالغة، وأتركه يصل إلى استنتاجاته بنفسه. لا أُعطيه الحكم جاهزًا، بل أضعه وسط الحكاية، أجعله يتفاعل، يتعاطف، يغضب، يتساءل، وربما يُغيّر رأيه كما تغيّر الشخصيات نفسها داخل الرواية.
الأدبُ العظيم لا يُصرخ، لكنه يُبقي صداه طويلًا في الذاكرة.
لهذا، أكتب القضية كفنّ، لا كخطبة، وأترك للقارئ أن يراها، لا أن يتلقّاها
11. من هم الكتّاب أو الأعمال الأدبية التي أثرت في مسيرتك الإبداعية؟
في الأدب الروسي، تعلّمتُ أن الإنسان أكثر تعقيدًا مما يبدو، أن النفس البشرية بحرٌ عميقٌ من الصراعات، لا يُختزلُ في الخير المطلق أو الشر المطلق.
أما أدب أمريكا الشمالية، فقد قدّم لي وجهًا آخر للكتابة، وجهًا حادًا مثل نصل الحقيقة.
الأدب العربي.. الجذورُ التي تُعمّق الرؤية
لم يكن تأثري محصورًا في الغرب، فالأدب العربي شكّل جزءًا من تكويني بعمقه الفلسفي وبلاغته الساحرة.
كل كاتبٍ قرأته، كان حجرًا في بناء روحي الأدبية.
البعضُ منهم منحني القدرة على فهم النفس البشرية، والبعض الآخر علّمني كيف أكتب الواقع دون أن أسجنه في قفص المباشرة، وآخرون فتحوا لي أبواب الخيال، فأدركتُ أن الأدب ليس مجرد سردٍ للحكايات، بل هو فنّ إعادة خلق العالَم، بطريقةٍ تجعل القارئ يراه كما لم يرهُ من قبل
12. كيف تتعامل مع الانتقادات الأدبية؟ هل تغير رأيك في عمل ما بعد نشره؟
ج/ حتى الآن، لم أتعرض لانتقادٍ مباشر، لكنني أؤمن أن النقد جزءٌ لا يتجزأ من مسيرة أي كاتبٍ حقيقي. لا أرى النقد سيفًا مسلطًا، بل اعتقد بأنهُ مرآةً تعكسُ زوايا قد لا أراها بنفسي، وقد تكون هذه المرآة صافيةً أحيانًا، وأحيانًا مشوشةً، لكنها تبقى ضروريةً لمن يريد أن ينضج أدبيًا
و أنا لا أكتبُ لأتجنب النقد، بل لأتعلم منه. فأنا أؤمن أن العمل الأدبي، بمجرد أن يُنشر، يصبح ملكًا للقارئ أيضًا، يُفسّره بطريقته، ويجد فيه ما قد لم يخطر لي أثناء الكتابة. وإن جاء نقدٌ عميق، مبنيٌّ على رؤيةٍ أدبية حقيقية، فسأكون أول من يصغي إليه، لا لأغيّر قناعاتي فورًا، بل لأفكر، لأتأمل، ولأعيد النظر في أسلوبي إن كان يستحق التطوير
13. كيف ترى المشهد الأدبي الحالي، خاصة مع ظهور منصات النشر الرقمية وتغير أذواق القراء؟
ج/ المشهد الأدبي اليوم يشبه ساحةً مترامية الأطراف، تتلاقى فيه التيارات وتتباين الأصوات، باتت الكلمة أكثر حريةً، لكن قيمتها أصبحت أكثر خضوعًا للاستهلاك السريع. منصات التواصل أزالت الحواجز بين الكاتب والقارئ،
نحن نعيش زمن السرعة، القراءة أصبحت أقرب إلى الوجبات السريعة، والمحتوى الذي يحقق الانتشار ليس بالضرورة هو الأكثر إبداعًا، بل ربما الأكثر توافقًا مع خوارزميات المنصات الرقمية. لم يعد الأدب يُقرأ بنفس التأني القديم، بل بات يمر عبر شاشاتٍ تُقلّب سريعًا، وعناوينَ تُجذِب أكثر مما تُعطي، وكلماتٍ تُختصر حتى تذوب مع زحام المحتوى اللامحدود
ليس بالضرورة. الأدب لا يموت، لكنه يتشكل بأشكال جديدة، يختبر لغته، يبحث عن طرقٍ لمخاطبة القارئ العصري دون أن يفقد روحه. نعم، هناك تراجعٌ في الذائقة عند البعض، وانتشارٌ للأعمال السطحية، لكن في المقابل، هناك كُتّابٌ يقاتلون ليحافظوا على بريق الحرف، على جمال اللغة، على قوة الفكرة. الأدب الجاد لم يختفِ، لكنه أصبح مثل كنزٍ على الباحث عنه أن يُنقّب جيدًا وسط الرمال الرقمية المتراكمة
14. كيف تغيرت علاقتك مع الكتابة منذ أول موضوع نشرته حتى اليوم؟
ج/ كان أول نصٍّ نشرته للعامة بلغةٍ ليست لغتي الأم، بالروسية، وكأنني أُعيد اكتشاف نفسي بحروفٍ لم أولد بها، لكنني وجدت فيها نافذتي الأولى نحو العالم.
في البداية، كنت أكتب لأُثبت أنني أستطيع، أما الآن، فأكتب لأنني لا أستطيع ألا أكتب.
في البداية، كنت أبحث عن الكلمات، أما اليوم، فهي التي تبحث عني.
في البداية، كنت أظن أن الكتابة فعلٌ منفرد، أما الآن، فأدركتُ أنها رحلةٌ يشاركك فيها كل من يقرأ، كل من يجد صدى صوته في نصوصك.
لم تتغير علاقتي بالكتابة فقط، بل تغيرت أنا معها.
كنتُ أكتب لأعبر، واليوم أكتب لأبقى
15. ما النصيحة التي تقدمها لكاتبٍ مبتدئ يحلم بنشر روايته الأولى؟
ج/ إن كنتَ تنتظر اللحظة المثالية، النص المثالي، الإلهامَ الذي سيجعلك تُبدع بلا أخطاء، فاعلم أنَّك تُضيّع وقتك. الكمالُ كذبةٌ يختبئ خلفها الخائفون، وأنت لن تكون كاتبًا حتى تقبل بأن تكتب سيئًا في البداية، أن تُمزق عشرات الصفحات، أن تُعيد كتابة الجملة نفسها ألف مرة، أن تشكّ في نفسك، ثم تمضي رغم ذلك.
لا تكتب لتُعجب الناس، بل اكتب لأنّك تحملُ نارًا بداخلك لا تهدأ، لأن هناك قصةً لا أحد يستطيع كتابتها غيرك. لا تخف من النقد، فأسوأ ما قد يحدث هو أن تتعلّم. لا تكتب كما يريد السوق، بل كما يريد قلبك، لأن الرواية التي تُولد بلا روح، تموت قبل أن تصل إلى القارئ
16. هل تعمل على مشروع جديد حاليًا؟ هل يمكن أن تشاركنا لمحة عنه؟
ج/ بصراحة نعم، أنا غارقٌ حتى أعماقي في كتابةِ روايةٍ ، أضعُ فيها جهدي ووقتي، وأسكبُ فيها شيئًا من روحي، اريدها ان تُصبح شهادةً، صرخةً، ونقشًا في ذاكرة جيل.
روايةٌ كبيرةٌ بحجم الأسئلة التي لم يُجَب عنها، طويلةٌ كأحلامٍ امتدت بين الأجيال، مليئةٌ بالانحناءاتِ
فيها كتبتُ رسالةً لجيلٍ سبقني، وربما لجيلٍ سيأتي بعدي، لأنني أؤمن أن الأدب ليس ترفٍ فكري، بل صوتٌ يتردد عبر الزمن، شهادةٌ تُسجل في وجه النسيان،
هذه المرة الرواية تنطلق من البصرة، مثل صوت يتردد في أزقة التاريخ، مثل عطر قديم يخرج من بيوتٍ شهدت الحبّ والفقد، الصراعات والأحلام، الخيبات التي لم تمُت، والانتصارات التي لم تُكتب بعد.
روايتي الجديدة غير محصورة في البصرة فقط، بل تنطلق منها مثل قدرٌ كُتب على وجوه شخصياتها. من شوارعها التي تعرفُ أكثر مما تقوله، من مياهها التي حملت أسرار الزمن، من ليلها الذي خبّأ في طياته قصصًا لم يروها أحد. هنا في البصرة يلتقي النهرُ بالبحر، و تُولد المدنُ ألف مرة وتموت ألف مرة، هنا في البصرة الحكايات لا تكتفي بأن تُروى، لكنها تُعيد خلق نفسها كل يوم .
17. إذا أتيحت لك فرصة كتابة رواية بالتعاون مع كاتب آخر (حي أو ميت)، من ستختار ولماذا؟
ج/ لو أُتيح لي أن أكتبُ روايةً مع كاتبٍ آخر، لما اخترتُ واحدًا، بل لانتقلتُ بين أزمنة الأدب، أطرقُ أبواب العظماء كما يطرقُ الحنينُ ذاكرةً قديمة، وأجمعُ من كلّ واحدٍ منهم سطرًا، فكرةً، روحًا تتغلغلُ بين الصفحات،
كنتُ سأجلسُ أولًا مع دوستويفسكي، أُحاوره عن العتمة التي تبتلع الإنسان، عن الجريمةِ التي لا تحتاج إلى سلاح، عن صراعِ الروحِ حين تنظرُ في مرآةِ ذاتها فتخشى ما ترى.
ثم سأعبرُ إلى ماركيز، أجلسُ في زاويةٍ من “ماكوندو”، أراقبُ الزمنَ وهو يلتفُّ على نفسه، أتعلمُ كيف أجعل الخيالَ أكثر واقعيةً من الواقع، كيف أُحلقُ في اللازمن دون أن أبتعد عن الأرض، كيف تُصبحُ الأسطورةُ حقيقةً حين تُروى بطريقةٍ صحيحة.
بعدها، سأُسافر إلى بورخيس، أتركهُ يقودني في متاهات المكتبات التي لا تنتهي، بين الكتب التي لم تُكتب بعد، وبين الأسئلة التي لا إجابة لها.
ثم سأجلسُ مع نجيب محفوظ على إحدى مقاهي القاهرة، أنصتُ إلى الشارع وهو يتحدث، أتعلمُ كيف يصبحُ الحيُّ رواية، وكيف تُصبحُ الشخصياتُ أكبرَ من الحياة نفسها. كان سيقول لي: “اكتب ما تراه، لكن لا تكتفِ بالرؤية، بل اسمعُ الأصواتَ التي لا يتنبهُ لها أحد، وانقلها إلى الورق”
الى جورج آوريل الى كارلوس زافون الى جوزيه سراماغو الى باتريك زوسكيند
وفي النهاية، سأعودُ إلى نفسي، إلى قلمي، إلى ما تبقى من كلّ هؤلاء العظماء في داخلي، وأفهمُ أنني، وإن لم أكتب روايةً معهم، فقد كتبوا جميعًا شيئًا فيّ، وأن كلّ كاتبٍ يقرأ، إنما يكتبُ روايتهُ بالتعاون مع كلّ من سبقه، حتى لو لم يُدرك ذلك
المحاورة : فاطمه فاضل
الكاتب : عمار نزار
تعليقات